الصدق في القول
الحمد لله أصدقِ القائلين, وصلى اللهُ وسلمَ على نبيِّه الصادقِ الأمين, وعلى آلهِ وصحبهِ وتابعيهِم بإحسانٍ إلى يوم الدين, وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين .. وبعد :-
فإنَّ من أعظمِ أخلاقِ الإسلام التي بُعث لتتميمِها نبيُّ اللهِ خيرُ الأنام الصدق ، والصدق في القول وفي العمل وفي النيات وصفٌ من شأنه أن يُثبتَ الله به النفعَ لصاحبهِ بأعمالهِ يومَ القيامة قال الله تعالى (( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم )) ولنأخذ أولاً صدق القول والصدق في الحديث فهو أساس وله ارتباطٌ بالصدق في العمل والصدقِ في النية, الصدقُ في القول والحديث مراقبةٌ للحق تبارك وتعالى ومَلكةٌ عند الإنسان تدلُّ على إيمانه حتى قال بعضُ العارفين: ما رأيتُ تقوى أحدٍ في لسانه إلا ورأيتُ أثرَ ذلك على جميعِ أعضائِه وأحواله . وقد جاء في الخبر (( أنه ما يصبحُ ابن آدم يومًا إلا وأعضاؤه تنادي اللسان تقول اتقِ الله فينا فإنما نحنُ بك إن استقمتَ استقمنا وإن اعوجَجت اعوَججنا )) فهذا اللسان له شأنٌ كبيرٌ في الميزان, ولقد قال نبي الله لسيدنا معاذ (( ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناسَ في النار على مناخرهم أو قال على وجوهِهم إلا حصائدُ ألسنتهم )) وكان من أعظمِ جُرمِ اللسان: الكذب, والكذب هو الإخبارُ بغيرِ الواقع .. أن يتكلمَ بغير الواقع, فهو في الحديث العادي جُرم وإثم, فإذا ترتبَ عليه إضرار بمسلمٍ تضاعفَ الوزرُ وتضاعفَ الإثم والعقاب, فإذا كان شهادةَ زورٍ استحقَّ صاحبُها غضبَ الله تعالى ومقتَه وطردَه, حتى جاء وصحَّ في الأثر (( أنه لا يشهد أحدٌ شهادةً يزيد فيها كلمةً مِن غير الواقع إلا لم يرفع رجلَه إلا وهو في سخطِ الله )) لم يرفع رجلَه من مكان الشهادة إلا وهو في سخط الله تعالى .
أثر الصدق على القلب :
ألا إنَّ لصدقِ القول والصدق في الحديث وتجنبِ الإنسانِ للكذب في أحواله أثراً كبيراً في تطهيرِ قلبِه وتنويرِ ضميرِه واستقامةِ حالِه, فعلى المؤمنِ أن يبذلَ همَّته في مراعاةِ كلامِه وأن لا ينطق إلا بالواقع وأن يتباعدَ عن الكذب تباعدًا, فلقد سُئل نبيُ الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل يكذبُ المؤمن قال: لا .. وتلا قولَ الله (( انما يفتري الكذب الذين لايؤمنون بأيات الله )) ولذلك جاء في سيرةِ الصحابةِ أنهم كانوا لا يتَّهمون بالكذب إلا منافقًا . أما المؤمن فلا يجوِّزون عليه الكذب بل يستبعدونه كل الاستبعاد .. (( كل خصلةٍ يُطبع عليها المؤمن ليس الكذب والخيانة)) قد يُطبَع على بعضِ خصالٍ ذميمة فمطلوبٌ أن يعالجَ نفسَه منها, لكن لا تستقر فيه وهو مؤمن طبيعة الكذب ولا الخيانة أبدا, لا يُطبَع على خصلةِ الكذب مؤمن ولا على خصلةِ الخيانة, بل إنما يكون ذلك في المنافقين .
الاعتناء بتربية الأولاد على الصدق:
لأجل ذلك وجبَ أن يعظِّم الناسُ شأنَ هذا الكذب وأن يهتدوا إلى الصدق في القول ويربُّوا على ذلك أبناءهم وأسرَهم, ولو أنَّ وليَّ أمرٍ خاطبَ أولادَه بالصدقِ وحثَّهم عليه, وحذَّرهم من الكذبِ ثم جاءه يومٌ مِن الأيامِ سائلٌ يسألُ عنه, فقال لأحدِ أولادِه: قل له هو غير موجود, أو ليس في البيت , أو خرج أو غير ذلك من الكذِبات لهدَم جميعَ ما كان يقوله ويبنيه في نفوسِ وعقولِ هؤلاء الأطفالِ والناشئة, لأن الفعلَ كذَّب القول وحينئذ يكون الكذبُ في العمل سبباً لأن يُذهبَ رونقَ الصدقِ في الحديث, فالصدقُ في الحديث أساسٌ لخُلقِ المسلم وفي حياته وفي انتهاجه في نهج الإتباعِ لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم, وضرورةٌ لتخلُّصِه من آفةِ النفاق ومن سببِ الخزي وحصولِ اللعنةِ قال تعالى (( ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين )) أعاذنا الله تعالى من الكذب وثبَّتنا على الصدقِ في القول ورزقنا الاحتياط في ذلك , فهو سِمة المؤمنين الصادقين المُصدِّقين بما بُعثَ به النبيُّ الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم , وهو الذي اشتهرَ بالصادقِ الأمين قبلَ أن يُبعث, فما جرَّبوا عليه كذبًا قط في حياته كلِّها حتى قالوا له حينما دعاهم إذ أمرَه الله تعالى بأن يصدعَ بالأمرِ فيهم ونزلَ قوله (( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن الجاهلين )) أرأيتُم لو أخبرتُكم أن وراءَ هذا الجبل عيرًا مصبِّحتكم أو مُمَسيتُكم أكنتم مصدقيَّ؟ فقالوا جميعا: ما جرَّبنا عليك كذبًا قط, نحن نصدقك, فقال: إني نذيرٌ لكم بينَ يدَي عذابٍ شديد، والله إنكم لتموتونَ كما تنامون, وتُبعَثون كما تستيقظون, وإنها الجنة أبدا أو النار أبدا .
فيا أيها المؤمن ابذل همَّك ونظرَك إلى صدقِ القول, وربِّ نفسَك عليه وربِّ أولادَك على ذلك في سلوكِك وانتهاجِك منهج الصدق حتى تغرسَ في نفوسهم أنَّ من أفظعِ الفظائع في حياتهم أن يقولوا كلمةً كذبًا, وعلِّمهم أنهم إن رأوا النجاةَ في الكذب فإنَّ فيه الهلاك, ولا يكذب أحدٌ ليُنجي نفسَه إلا وَقعَ في ورطةٍ أكبر منها قريباً ولا يطولُ به ذلك غالبا .. فلأجل ذلك وجبَ على المؤمنِ أن يهتمَّ بأن يصدقَ في الحديث, فإنَّ فيه النجاةَ وإن رأى وتخيَّل أنَّ فيه هلكةً فإن الله يُنجي الصادقين سبحانه وتعالى, ولو حصل عليه تعبٌ أو ملامةٌ في حالٍ عوَّضه الله تبارك وتعالى بإصلاحِ أحوالٍ كثيرةٍ وأمورٍ خطيرة .. وفقنا الله للصدقِ ورزقنا التشبثَ به وطهَّرَ ألسنتَنا عن الكذب, وعما لا يرضيه يا ربَّ العالمين, جنِّبنا ما يوجِب أن ترمَى به الوجوه وتُقذفَ في النار, اللهم حققنا بالصدق واجعلنا من الصادقين ..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
والحمد لله رب العالمين .
..
وبالتوفيق لك